لماذا يكرة أفلاطون لغتي العربية ؟

لماذا يكرة أفلاطون لغتي العربية ؟ 

المنعطفات المعرفية :

من يتتبع تاريخ العلم يلحظ منعطفات معرفية قوية, كان العلم تجريدياً تأملياً أيام الفلاسفة الكلاسيكيين فيكتفي الفيلسوف وهو في مكانه بمجرد التأمل في الكون ومن خلال تأمله هذا ينتج معرفة, ثم حدث منعطف معرفي آخر حين تحولت المعرفة من تجريدية إلى تجريبية قائمة على العلم الطبيعي بالاختبار و التجريب لنتائج تأملاتنا ، لأن التجربة أثبتت أن بعض تأملاتنا العقلية جانبت الصواب كقولنا عقلاً لو كانت الأرض كروية لنسكبت المحيطات أو قولنا أن الطائرة يستحيل طيرانها لأن الهواء خفيف و الحديد ثقيل والخفيف لا يحمل الثقيل.
ثم حدث منعطف معرفي آخر ، وهو المنعطف اللغوي ، فأصبحت المعرفة قائمة على اللغة لأن النتائج التجريبية أو التأملية لكي تصل لنا لابد أن تتوسط اللغة
ومن أهم  ما يتوسله العلم هو الدقة في توصيف الواقع أو الكون أو الذات فإذا كانت اللغة الحاملة لهذا العلم غير دقيقة فإننا سنفشل في المعرفة
 

اللغة أعلى سلطة على العقل  : 

بدأت البشرية تنتبه بأن اللغة ليس فقط مهمتها التوصيف والنقل بل هي أعلى سلطةً على العقل ، فالعلم يقنعك بالحقيقة إذا كشف عنها أما اللغة فتستطيع اقناعك بأن الوهم حقيقة ، فهناك أشياء ليس لها وجود ومع ذلك يؤمن بها الناس فقط لأنها موجودة في اللغة
مثل الغول رغم أنه ليس له وجود إلا أن العرب كانوا يؤمنون بوجوده فقط لأنه موجود في لغتهم ثم أزال النبي الأكرم وجود الغول من اللغة بنص ( لاغول ولا طيرة ) الغول وجد واختفى بسلطة النص, الخرافة ليست فقط بالموجودات بل حتى بالمفاهيم كالطيرة

كيف تختفي وتوجد الأشياء بسلطة اللغة ؟

اللغة لها القدرة على تصوير الواقع بمسميات ومن ثم فهم تلك المسميات على أنها الواقع، وبالتالي هناك علاقة بين الواقع و اللغة, فإذا زيفت اللغة فأنت تزيف الواقع في عقل البشر فيظنون أن ما تقوله موجود بالواقع, وذلك فقط لأنه موجود باللغة, ومن هنا بدأ الاهتمام باللغة كثقافة وموضوع وأداةٍ للمعرفة, فقام العلماء بإعادة انتاج لغتهم ليس فقط لتكون دقيقةً تنجح في نقل العلم بل حتى لا تكون لغة خرافية تنتج الخرافة فقامت الإنجليزية بالاستعانة بالمصطلحات اللاتينية والإغريقية لكي توحد تسمية الأسماء العلمية بين كل اللغات الأخرى

ماذا عن اللغة العربية وما مدى دقتها؟ : 

لمعرفة هذا استعنت بالاتجاه البنيوي في تحليل الخطاب ، فالبنيوية تدرس مجموعة نصوص أي لغة لتستخلص منها خصائص تلك اللغة وطرق تفكير مستخدميها, فاللغة العربية الشعر فيها ليس فقط مكون من مكوناتها كباقي اللغات بل اللغة قائمة على الشعر وليس هذا وحسب بل اللغة العربية كونت لتكون خادمة للشاعر لا للمثقف بكثرة الترادف و المشترك اللفظي والضرورة الشعرية التي تزيل قواعد اللغة فتصبح اللغة سيالة غير منضبطة .

علاقة المثقف بالشاعر : 

ومن فجر التاريخ كانت علاقة المثقف بالشاعر علاقة صراع فأفلاطون كان يأمر بطرد الشعراء من مدينته الفاضلة لسببين :

أولاً, لأنهم يقولون أشياء غير مؤدبة بطريقة مؤدبة – هذه مزحة من أفلاطون –

ثانياً وهو السبب الحقيقي أن الشعراء يناشدون بقيم مخالفة للفلاسفة فالشعر لغة الخيال و الرمزية وهي لغة ضد الحقيقة فيرى الفلاسفة أنهم يزيفون الواقع و الواقع هو موضوع المعرفة,
كيف لو عرف افلاطون أن هناك أمة لغتها مبنية أساساً على الشعر وركيزتها الأساسية الخيال والرمزية,كيف سيكون حكمه على جدارة اللغة العربية في توصيف الواقع؟!

ما مدى جديتها في توصيف أي شيء وشعارها أعذبه أكذبه ، لغة تفضل اللفظ المسجوع على المعنى, إذا كنا نطلب المعرفة بلغة لا تخدم إلا الشعر والخيال فمن الطبيعي أن تنتهي محاولاتنا بالفشل فمن يطلب الشيء بغير أسبابه عوقب بحرمانه.

سبب فشل كل الإيدلوجيا : 

إن نهضتنا الحضارية لم تنجح بسبب حاجز اللغة فكل الأيدولوجيات لم تفلح عندنا كعرب لا الليبرالية ولا الحداثة ولا الإسلامية ولا الماركسية رغم أنها نجحت في أماكن أخرى، لماذا؟ لأنهم لم يفهموها، فاللغة الشعرية لا تسعفك في فهم الفلسفة والأفكار.

موقفي كعروبي من أسلافي : 

أنا أتفهم موقف أسلافي العظام فهم أنتجوا لغة تخدمهم وتناسب طبيعتهم وطبيعة عصرهم فالشعر أصبح دينهم وديدنهم، ليس فقط لأنه فنهم الأول والوحيد وأعلى مظهر لنشاطهم الذهني فحسب، هو أيضاً آلية تساعدهم على البقاء ، فالحياة في الصحراء مليئة بالبؤس تحتاج للخيال, والخيال واقع من لا واقع له, نحن الذين نواجة أكبر معضلة وهو سؤال النهضة و الحضارة لما لا ننتج لغة علمية تلبي احتياجنا كما فعل أسلافنا حين أنتجوا لغة شعرية تناسب إحتياجهم؟
وفي النهاية, يبقى شيء أخير يخص خصائص اللغة العربية

أن كلمة مبدع ومبتدع جذرها باللغة واحد، بدع، لذا كان كل مبدع مبتدع ولذا كنت حريصاً أن أقول علينا نتبع أسلافنا في أنتاج لغة تناسبنا فبقدر ما أريد أن أنظم للجماعة إلا أن قلمي يميل للبدعة والله من وراء القصد وبالله التوفيق.

8 آراء حول “لماذا يكرة أفلاطون لغتي العربية ؟

  1. ..~
    مقال وطرح جميل لن أقول مبدع ههه : )
    اوافقك في بعض ما كتبت وأضيف أن الشعر العربي بلغتنا العربية الفصيحة وإن اعتبر من زيف الأقوال أو يجانب الحق والحقيقة أو يستحدث واقع مختلف أو يعزز للخيال أحيانًا لكن الناظر في حال الشعر منذ القدم حتى الآن يجد أن الشعر كان محكمة للكثير من القضايا العربية ومازال وبوابة للتعبير ومتنفس ومخرج أحيانًا لبق وأنيق ، وما يميز الشعر العربي هو عدم تأثره بتيارات ثقافية كثيرة وكان ومازال أصيل في هويته ، وإن كانت بعض صور الشعر العربي قديمًا أو حديثًا خالطها الخيال أو المبالغة أو الزيف أو أو أو … فلقد شفعت له البلاغة والفصاحة والبيان والمعاني في قوتها جزالتها متانتها ترادفها تضادها والخ .
    على العموم من يكتب الشعراء كُثر ولكن من يمارس الشعر فعلًا قِلّة وحين اقول يمارس الشعر يعني أن الممارسة لا تأتي بالعادة كما يعتقد البعض وهذا اعتقاد شائع بل الممارسة تأتي متضمنة المعرفة ،كما أن الشعر دخل في االعلوم الغير تجربية منذ القدم لتسهيل الفهم في العلم الديني كالتجويد أو العلم الأدبي ، وحاليًا من باب المعرفة التكاملية بين العلم التجريبي والغير تجريبي أصبحت هناك محاولات لتبسيط العلم التطبيقي بالشعر ليكون هناك تساوي بين فصي الدماغ الأيسر والأيمن ، أطلت ولكن شدني الموضوع جملة وتفصيلًا
    شكرًا للطفك أمير ولا تحرمنا اراءك ومقالاتك المشوقة
    _أصايل..~

    Liked by 2 people

    1. أشكر الأديبة و العظيمة أصايل على لفتتها الذكية جداً حين نبهت على أستخدام العرب للشعر في ضبط وتيسير معرفتهم مثل ألفية ابن مالك و منظومة المفيد في علم التجويد
      بيد أني أنبه إلى شيئين ١- هذا نظم وليس شعر لأنه خالي من المشاعر ٢- انهم نظموا علومهم لتكون ميسره للحفظ وليس الفهم اذا أن الشعر أسوء أداة في التبسيط و التفسير لأن الشعر بنفسه يحتاج الى شرح ِ وتفسير بسبب ترادفه و اشتراكه و ضروراته الشعرية

      إعجاب

    2. اشكرك على التعليق واود ان ادلي هنا الى ان العبارة الشهيرة في نقد الشعر العربي (القيرواني في العمدة كمثال) والتي تقوله اعذب الشعر اكذبه لا تعني (الكذب كما نفهمه الان) = اود ان نقول ان هناك تطورا ملحوظا في معاني الالفاظ فاللطيفة والنكتة وكلمة خطير تبدلت في وقتنا ولم تعد كما هي في كتب الفقهاء لهذا نحن مختلفون لغويا لان حالتنا مزرية بعدم وجود معجم تاريخي للغة العربية حتى الان = عودة للكذب الكذب المقصود هناك هو روح الشعر لا يمكن القول انه مختزل في الخيال او المبالغة بل هو معنى عربي خاص. راجع لسان العرب لابن منظور مادة كذب وهناك بحث نسيت اين هو لربما في مجلة المورد العراقية عن صيغة ما اكذبه كصيغة معينة من مهجور الكلام العربي عليك بها في مفيدة

      إعجاب

  2. في اعتقادي ان اللغة العربية لغة القران وليس اللغة او اللهجة العامية هي اعظم لغة عرفها التاريخ ، لغة غنية جداً جداً بفرداتها ومرادفاتها ومعانيها ، اما عن دقتها فأعتقد انها دقيقة جداً فنستطيع مثلاً ان نصف البدين بعدة اوصاف على حسب مستوى البدانه وعلى حسب جنسه فمراتب البدانة في اللغة العربية للرجل ( بدين ، سمين ، لحيم ، شحيم ، بلندح ، عكوك )
    وللمرأة ( سمينة ، رضاضة ، خدلجة ، عركركة ، عضنكة ) وغيرها الكثير من الامثلة ، تتفرد اللّغة العربيّة عن سواها بقدرتها على وصف شيء أو موقف بعبارة واحدة، أو ببضع كلمات موجزة مختصرة تدلّ على المعنى مباشرة دون الحاجة إلى الإسهاب

    وعلمياً اللغة التي تحوي بحر واسع من المفردات تزيد من قدراتك الإبداعية، وتجعلك قادر على استيعاب خبرات وطاقات الآخرين ، وتعطيك ذاكرة قوية وتوسع الادراك مما يجعلك دائم التفكير والتأمل والتساؤل ..

    فقط لو أننا نعود للفصحى لكان الحال افضل 😢

    Liked by 1 person

    1. بعد الشكر للدكتور ابو عماد و العنود في ردكم عليّ استحثيتم التفكير بزاوية غير مفكر بها

      مجمل قولكما أن اللغة العربية لغة دقيقة بدليل استخدام القرآن لها

      اقول وبالله التوفيق أن القرآن استخدم اللغة العربية ليس لأنها دقيقة بل لأنها إيحائية تخيلية تقارب المعنى ولا تصفه

      وهذا مطلب للقرآن فالله حين تكلم عن ذاته المتعالية لم يرد وصفها فهو ( ليس كمثله شيء ) كذلك حين تكلم عن الماوراء الجنة والنار لم يرد وصفها لأنها ( ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر )

      ولو استخدم القرآن لغة دقيقة وخالفت الماهية تكون كذب والله منزه عن هذا لذا استخدم لغة إيحائية تقارب المعنى ولا تصفه لذا اللغة العربية انجح لغة لتكون لغة دينية لأن الدين هو كدح لقول مالا يمكن قوله وتصور مالا يمكن تصوره أنه توق إلى اللانهائي

      إعجاب

  3. كره أفلاطون لا يعد مقياس للغة أثبتت وجودها وتهيأت لتحمل أعظم رسالة على وجه التاريخ لتبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن فيها، بل وعلى القول الراجح أنها لغة أهل الجنة..
    وإن اشتملت في أوسع استعمالاتها على الخيال فهذا لايعني إلغاء جانب الحقيقة فيها، فقد حوت وجوه العبادة والتشريعات وجميع أشكال التواصل، بل وبنيت أسس المعاملات على الكلمة؛ فأي حقيقة وواقع أعظم من ذلك.
    ومن هنا يتأكد أنها أعظم لغات العالم خصوبة وثراء واتساعا، وإن وجد هناك قصور في مواكبة الانفجار التقني الحديث وصنع الحضارة الذاتية فلا يعيب
    القوس إهمال باريها.
    يقول حافظ إبراهيم:

    ررَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
    وَلَدتُ ولمَّا لم أجِدْ لعرائسي رِجالاً وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتِي
    وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
    فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
    أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
    فيا وَيحَكُم أبلى وتَبلى مَحاسِني ومنْكمْ وإنْ عَزَّ الدّواءُ أساتِي
    فلا تَكِلُوني للزّمانِ فإنّني أخافُ عليكم أن تَحينَ وَفاتي

    إعجاب

  4. في الحقيقة ومع اطلاعي الجيد على الاداب الغربية الشعر هو روح ادب وفن العالم. فكافكا رغم انه لم يكتب من الشعر الا نزر قليل -او لم يكتب على الاطلاق- الا انه بالالمانية كل كاتب روايات وادب هو شاعر. كذلك في الاداب الغربية عموما الشعر مبدئيا يشمل كل صنوف الادب فرواية غوته الام فرتر هي رواية بالتصنيف الحالي لكنها شعر لدى الالمان. الشعر روح الادب. ولا يمكنك ان ترجع تخلف اللغة بالتالي شعبها بسبب ان لغتها الشعرية غير مطورة بالعكس ان الشعر هو محركها الاساس نحو التطور والتوسع فالفاظ مثل الشعشعاني وغيرها من الفلسفة التي ادخلها الحلاج الى الشعر العربي ما كانت ان تدخل في اللغة العربية من طريق اخر وهكذا.
    لا ريب اننا نعاني هذا واضح لكنك لم تقترح حلولا كي نناقشها. وبخصوص رايي مع ان افلاطون شاعر وكتبه الفلسفية شاعرية حقا الا انه لم يقارب قضية الشعر كما قاربها القرآن افضل من تعامل مع الحالة الشعرية للانسان -ايا كان عربي او غيره- هو الله في سورة الشعراء ولا بد على الباحثين توسيع هذه الرؤية انطلاقا منها لفهم لغتنا وانفسنا اكثر.
    احييك على المقال لكنك اثرت في كلمات قليلة موضوعا هائلا يتمثل في فلسفة اللغة وما شابه ولم تقارب الا بضع فلسفات ولم تشر مثلا الى تشومسكي وتوافقه مع النحو العربي في بعض النقاط وفتغنشتاين في بحوثه اللغوية وغيرهما الكثير..

    Liked by 1 person

أضف تعليق