البيان وقت الحاجة

-العالم بوصفه لغة:

اللغة هي مُقاربة لتعّقل العالم فاللغة محايدة تنقل الواقع كما هو ، لكن ماذا لو كانت اللغة مُحملة بمعاني مسبقة ؟ وبمفاهيم تحاول إخضاع اللغة والهيمنة عليها ، لتعيد تشكيل العالم والوجود ؟

اللغة مكونة من نصوص و خطابات ومقولات أي أن صحة تعقلنا للعالم والوجود مرهون بصدق المقولات و الخطابات من عدمها ومن هنا حاجتنا لفحص مقولاتنا الكبرى و حكاياتنا السردية .

ومن أهم المقولات تلك التي شكلت ثقافتنا وطريقة تفكيرنا للعالم و الوجود والإيمان و الإله وهي مقولات علم الكلام أو مقولات الإسلاميين كما يسميها الأشعري .

-الغاية الحقيقية للكلام :
بيد أني في بحثي وجدت أن الغاية الكبرى من الكلام ليس إظهار الأفكار بل إخفائها، ولا لتبيين الإرادة بل سترها وليس لخدمة الحقيقة بل تزييفها .

أنهم بإنتاج الكلام يريدونك أن تسير وتفكر بأبعد مكان عن حقيقة أفكارهم ولهذا لن نستمع لمنطوق أقوالهم بل لمسكوته لن نسير حيث تريد مقولاتهم أن نسير بل إلى حيث لا تريدنا أن نسير وهذا ما سأحاول أثباته في هذه التدوينة (أن للقول ظاهر ومضمر وأن الغاية الحقيقية مرتبطة بالمضمر والمخفي من القول لا الظاهر ).

-أدوات البحث :
ولكي نكشف عن الغاية الحقيقية للقول سنستخدم تحليل الخطاب ،لتفكيك المقولة ولنبين هذا القول يخدم أي طبقة لنعرف الطبقة المنتجة لهذا القول ثم نستعين بمفهوم ماركس للبُنى ، وهو أن البنية التحتية ( الظروف الإقتصادية والاجتماعية ) تحدد وترسم ملامح البنية الفوقية ( الأفكار و المقولات) أي سننظر في ظروف الطبقة المنتجة للكلام أو الخطاب ليتضح المُراد الحقيقي من القول .
وبسم الله أبدأ

-بيان كفر مرتكب الكبيرة :
من أنتج هذا الخطاب ؟ وما الحاجة التي دعتهم لهذا القول؟
هذه المقولة خرجت من العراق تحديداً بين جيش علي أثناء نزاع السلطة بين أنصار علي وبنو أمية فقد كان أصحاب علي يرون أن بني أمية مغتصبون للخلافة ولرغبتهم في قتالهم لم يجدوا مبررا لقتال مسلمين مثلهم لم يثبت عليهم أنكار شيء من الدين بالضرورة ، ولكن ثابت عليهم أعمال من الكبائر مثل إغتصاب الملك واستباحة الدماء ولأن البيان يظهر وقت الحاجة إليه خرجت مقولة كفر مرتكب الكبيرة كتبرير لقتال الأمويين وإبطال لشرعيتهم إذاً هي مقولة سياسية دفعتهم الظروف لإنتاجها .

وهذا يفسر سبب الإنشقاق الكبير الذي حدث في جيش علي حين أراد الصلح مع بني أمية لأن هناك من جيشه من يؤمن حقيقة أن مرتكب الكبيرة كافر ولا يجوز الصلح معه وحين أقول هناك من يؤمن حقيقة معناه أن هناك من لايؤمن بكفر مرتكب الكبيرة وإنما يعرف أن هذه مجرد مقولة تبريرية لقتال الأمويين .

نتقدم بأحداث التاريخ إلى أن تنازل الحسن لمعاوية في أمر الخلافة ، هنا حسم الخلاف سياسياً لكنه ما زال مطروح فكرياً ما حكم مرتكب الكبيرة وهل يحق له أن يكون حاكم شرعي ؟

ومن هنا إنخرطت كل المذاهب الإسلامية في حكم مرتكب الكبيرة لأنه يحدد شرعية الحاكم وبالتالي مصير الأمة ، ومن هنا بدأت المقولات و الخطابات والبيانات بالظهور أو كما يسمونه في ذلك الوقت علم الكلام لأن كل فرقة بدأت بإنتاج كلام .

-بيان الجبرية / الجبر الإلهي :
بيان الجبر الإلهي من قال بهذا القول هم علماء الشام ولأن كل بيان يعبر عن حاجة ، فما الحاجة التي دعتهم للقول بهذا القول ، سيتبين إذا عرفنا هذا الخطاب يخدم أي طبقة لمعرفة أي طبقة يخدم لابد من تفكيك الخطاب والاستماع ليس لمنطق القول بل لمسكوته .

الجبر (هو أن الإنسان مجبور لا يتحمل مسؤولية أفعاله فلا يحاسب عليها فكل شيء هو بعلم الله السابق وبقضاء وقدر منه).

وأكثر طبقة تحتاج هذا البيان وتستفيد منه هم بنو أمية مقولة تبرر لهم كل أفعالهم ، فكل شيء هو بقضاء من الله وقدره .

بمعنى الجبر الإلهي مقولة تستخدمها الدولة الأموية لتحمي نفسها وتبين أن مظالمها خارجة عن إرادة الحاكم وهو غير مسؤول عن هذا الظلم وإنما كتبه الله عليهم ومن يعترض على أفعال الحاكم هو يعترض على قدر الله بالتالي هو يعترض على حكمة الله .

إذاً علماء الشام ينتجون خطاب يخدم الدولة الأموية التي مقرها الشام واضح جداً أنهم أنتجوا هذا الخطاب بطلب من الدولة الأموية وليس قناعة إيمانية ناتجة من النظر في النص الديني وهذا ما يسميه المحققين الدافعية ويسميه أهل الخطاب بالحاجة .

-بيان الإرجاء :
( لايضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة )

الطبقة التي أنتجت هذا القول هم علماء الكوفة والبصرة على رأسهم ابو حنيفة وتلاميذه فما الحاجة التي دعتهم لهذا القول ؟

بعد المقولتين السابقتين كفر مرتكب الكبيرة و الجبر الإلهي دخلت الأمة بحالة استقطاب حادة فهناك من يرى الحاكم لا يخطئ وأن أفعاله بقضاء الله وقدره و هناك من يراه كافر مرتكب للكبائر ثائرين عليه مثل الخوارج أو ينتظرون اللحظة المناسبة للانقلاب عليه ومن سوء حظ أهل العراق أنهم كانوا أرض المعركة لكل هذا الصراع وأكثر من عانى من هذا الصراع ، هم أهل الكوفة و البصرة لأنهم أهل علم وتجارة وليسوا أهل قتال

كانوا بحاجة ماسة لمقولة ترفع عنهم هذا البلاء و تخفف من هذه النزعة الإستقطابية الحادة ، مقولة تتوسط بين المقولتين ، تعترف بأخطاء الحاكم ولكن هذه الأخطاء لاتضر إيمانه ( إي شرعيته في الحكم )

هذه المقولة أقنعت كثير ممن كانوا غاضبين ممن لا يعترفوا بأخطاء الحاكم ونجحت في تسكين الصراع وهي الغاية المرادة من القول وليس بالضرورة يؤمنون حقيقة أن الإيمان لا يضر معه معصية .

-بيان المنزلة بين المنزلتين و التفويض الإلهي :
ومعنى التفويض الإلهي :هو أنه من عدل الإله أنه فوض لنا أعمالنا وخلقنا بإرادة حرة وواعية فنحن مسؤولين عن أعمالنا ومن يرتكب الكبائر ليس بمؤمن ولا كافر ولكن بمنزلة بين المنزلتين .

هذا منطُوق القول ولنعرف مسكوته أو المراد به لابد أن نعود للظروف التي أنتجت هذا الخطاب ليظهر حقيقة القول .

-القوى المركزية وقوى الهامش أو الطرف :
كانت الساحة الفكرية فيها ثلاث مقولات اثنان منها تصب في مصلحة الحاكم وهي الجبرية و الإرجاء ومقولة واحدة تدينه وهي مقولة الخوارج -كفر مرتكب الكبيرة- وطبيعي أن تتغلب المقولتين على مقولة الخوارج وتدفعها إلى الخارج أي تحويلها من مقولة مركزية إلى الهامش والطرف بمعنى ليس لمقولة الخوارج تأثير في داخل المجتمع وهكذا أصبح المجتمع بين من يرى الحاكم لا يخطئ فأفعاله بقضاء من الله وقدر أو يرى أنها أخطاء لا تضر إيمانه وهذا جعل الحكام يتجرؤون على مزيد من الظلم ومزيد من استباحة الدماء و المال

ومن هنا دعت الحاجة لخروج مقولة تعيد التوازن بين هذه المقولات الثلاث ، فخرجت مقولة المعتزلة التفويض الإلهي التي تجعل الإنسان مسؤول عن تصرفاته والمنزلة بين المنزلتين والوعد و الوعيد لتهديد الحاكم من التمادي في ظلمه وهكذا يكون مراد ومسكوت القول الذي يريد أن يقوله المعتزلة من التفويض الإلهي و الوعد و الوعيد هو أن الأمويين مسؤولون عن تصرفاتهم وهم مدانون حتى يتوبوا ، والتوبة هي الكف عن الظلم .

-الحكم هو فن في القول قبل أن يكون أي شيء آخر :
كل خطاب هو شكل من أشكال التحكم يُنتج هيمنة و له تأثير في عقول المتلقين وسلوكهم

وهذا سبب في أن القوى الإجتماعية تحاول السيطرة على الخطاب ولا يخرج خطاب يقاوم خطابها ، فمقاومة خطابها تعني مقاومة هيمنتها

وهذا يفسر لماذا هناك خطابات تحظى بمكانه متميزة وخطابات يُتعمد تهميشها وتدميرها ، لماذا هناك مقولات ُسمح بتوثيقها ومقولات تقرر إقصاؤها، ومقولات أضيفت عليها شرعية ومقولات أُدينت وعدت مقولات أجنبية .. ولكن كيف تتم آلية منع الخطاب ؟

-الإجراءات الخارجية لمنع تكون الخطاب:
السلطة تمارس التحكم من خلال العنف و الإيدلوجيا وهي
الإجراءات الخارجية أي تدخل السلطة لمنع أي خطاب جديد من الظهور ، تبدأ من التحكم في وسائل الأعلام وتحديد الخطابات الممنوعة ومن يخالف ذلك سيواجه العنف من سجن أو تنكيل أو قتل ومن هنا يتبين عظمة مواقع التواصل الإجتماعي لأن الكلام فيها خارج نفوذ السلطة

-الإجراءات الداخلية لمنع الخطاب:
هذه الإجراءات لا تحتاج التدخل الخارجي من السلطة لتمنع الخطاب من الظهور لأنها هذه الإجراءات موجودة داخل أذهان الناس ، تقاوم أي خطاب جديد وهي مفاهيم مثل البدعة ، مخالفة الإجماع ، مخالفة فهم السلف، الفتنة ، دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة ، سد الذرائع

هذه المفاهيم هدفها أن يبقى الخطاب كما هو ، لكي تبقى الطبقة المنتجة لهذا الخطاب في موضع القوة وأي خطاب يخالف المفاهيم السابقة هو خطاب غير شرعي يجب مقاومته

-المدارس النظامية أكبر أداة قمعية :
واضح أن المدارس أداة قمع من أسوارها العالية وأبوابها الحديدية و من نوافذها المغلقة بقضبان الحديد وطريقة التعليم القهري و القسري التي تستخدمها ، هنا يتعلمون الإجراءات الداخلية لمقاومة أي خطاب وهي مفاهيم تقوم بإقصاء كل ما يتعارض معها من خطابات وإذا نجحوا في هذا فذلك يعني أنهم نجحوا في خلق ماكينة إقصاء تعمل بشكل أوتوماتيكي لأي خطاب جديد

المدارس النظامية وجدت ليس لتعليم الناس بل صنعت لتحافظ على طبقة اجتماعية معينة في موضع القوة

تحليل الخطاب هو بدرجة أولى لمكافحة أنماط الهيمنة المختلفة، من أجل الكشف عن الطبقة المنتجة لهذه الهيمنة وتوضيح الغاية الحقيقية من وراء هذا الخطاب وفي حال عدم إلتزام الخطاب بالصدق و العدل فدور المثقف مقاومة هذا الخطاب بإنتاج خطاب مضاد له لمقاومة هيمنته

-فصل المدنس عن المقدس :
أي طبقة تريد أن تمارس أي نوع من السلطة فإنها لا تستطيع ممارسة السلطة إلا بإذن المحكومين أنفسهم لذلك تستخدم ثقافتهم و دينهم لتحكمهم من خلالها

والدين هو المؤثر الأكبر على اللغة و إذا تم التأثير على الدين فأنه تأثير على اللغة ولأن الإنسان لا يفكر خارج اللغة فإن وعيه يكون رهين وأسير لتلك التأثيرات ومن هنا يتم إعادة تشكيل وعيه عن الوجود كله ، كمفهوم الحق و الباطل وعن أفعال الله وعن شرعية الحاكم

ومن أجمل تعريفات العلم هو أنه نزع القداسة عما ليس مقدساً في أصله ومن هنا ضرورة إلحاق علم الكلام بالمقولات السياسية فهو نفعي يتكئ على النصوص ليقرر قناعات مسبقة تجاوباً مع حاجات الواقع أكثر من أنها قناعة إيمانية ناتجة من النظر في النص الديني ومن هنا نبطل تأثير تلك المقولات في اللغة وبالتالي منعها من التأثير في الوعي

– البينة المبينة للبيان :
في الختام أذكر خلاف العلماء حول معنى البينة في القرآن كل العلماء قرروا أن البينة هي شهادة شاهدين إلا ابن تيمية وتلميذه قررا أن البينة هي كل ما أبان الحق وأظهره ولعل البينة هنا تكون الرواية أوالسردية الأكثر تماسكاً الأكثر تفسيراً الأكثر أتساقاً الأكثر جمالاً

وهي نفسها المرجحات بين الفرضيات العلمية فالعلماء ينحازون للفرضية للأكثر تفسيراً للأكثر تماساً للأكثر جمالاً

رأي واحد حول “البيان وقت الحاجة

أضف تعليق