أساليب العرب في إخفاء المعرفة

-الحاجة للخطأ

ما العلم إلا تصحيح أخطاء ، وما التطور إلا ترقي عن الخطأ ولهذا أصبح الخطأ مُثاباً عليه في الإسلام لأنه مُساهم في اظهار الحق. ولو مُنع عن الناس حقهم في تجربة الخطأ استحال عليهم معرفة الصواب

-الخليفة المستنير

كان المأمون يفهم أهمية الخطأ بالنسبة للصواب، لذا كان من أهم أعماله في الخلافة إدارة المناظرات، ليس فقط لأسباب علمية بل أيضا لأسباب سياسية فهو يحكم خمس حضارات ، هذه الحضارات إذا لم يعبر عنها ولم يسمح لها بالتعبير عن نفسها، تفقد انتماءها له وتتمرد عليه لأن الخلافة أو الدولة لا تمثلها ولا تسمح لها بتمثيل نفسها .

أيضاً لأن المأمون يعتبر الخلافة مستأمنة على الحضارات ولذلك على العرب أن يكونوا في مستوى فهم هذه الحضارات وإلا سيفقدونها لذا تبنى المناظرات لأنها كمنهج معرفي أرقى من منهج التلقين ففي المناظرات يتم فحص الأفكار بعقول أخرى حتى تترقى و تنضج، وهو منهج اليونان في المعرفة ولم يتخطى هذا المنهج إلا المنهج الذي ظهر فيما بعد وهو المنهج التجريبي(فحص الأفكار بالعلم الطبيعي )

وإذا عرفنا أن المناظرات كانت بهذه الأهمية فليس بغريب أن يديرها المأمون بنفسه ويستفتحها بقوله (ابحنا الكلام وأظهرناه فمن تكلم بالحق حمدناه ومن جهل وقفناه)

-الإنقلاب مع الخليفة المنغلق

جاء المتوكل المقتنع برأي الفقهاء والمحدثين ومنع الكلام والمناظرة لأنها مظنة الخطأ ، والخطأ وقود الفتن والتفرق ، فأجبر الكل على الإجماع لأنه الصواب وأدعى لتوحيد كلمة الأمة

ولكنه نال نقيض مقصوده فحين كبت الصراع في الساحة الكلامية ظهر في الساحة السياسية وحين تم تجريم المعرفة تحولت المعرفة من خادمة للخلافة إلى متمردة عليها ومن ذاك الوقت أصبحت المعرفة تختبئ وتتخفى فكيف كانت تتخفى..

-نموذج التعقيد المتعمد ..لا تجعل لفكرك صوتاً

أدرك المعتزلة خطورة أن يقولوا للجمهور أشياء لا يودون سماعها لأن الجماهير لها أساليبها في تأديبهم من تنكيل أو قتل أو استعداء بالسلطة ولتجاوز هذا الجمهور المتربص كتبوا علومهم وآراءهم بلغة معقدة لا يفهمها الدهماء والطغام، وبهذا اصبح تعقيد اللغة وسيلة بقاء ، بقاء للمعرفة وبقاء لحياة صاحب المعرفة، لغة المعتزلة المعقدة و النخبوية لها مايبررها، لقد قرروا أن لا يجعلوا لفكرهم صوتاً فتحولها الجماهير سياطاً عليهم.

-نموذج الجماعات السرية الإسماعيلية … رأياً لك ولخاصتك

وهم جماعة يكتمون أمرهم ويخفون سرهم ولا يشاركون معرفتهم إلا لمن كان على شاكلتهم ، تتجمع في الظل لتدريس علومهم و آراءهم الخاصة ويختارون أتباعهم بعناية حتى لا يفتضح أمرهم
ومن أهم تعاليمهم أن يكون للمرء رأي ظاهر ورأي باطن
رأي يوافق الجمهور فيما هم عليه ورأي خاص به ولخاصته وهذا سبب اسمهم الآخر وهو الباطنية .

-نموذج الاسم المستعار اخوان الصفا

أما اخوان الصفا مشروعهم في الأساس هو شرح وتبسيط علوم حكماء اليونان للعامة لذا خيار تعقيد اللغة و خيار الجماعات السرية لايخدم مشروعهم لذا كانوا يبحثون عن الوسط الذهبي وهو الكتابة بلغة مفهومه دون عواقب تحل بهم فهتدوا إلى أسطورة مفيدة من أساطير العرب

وهي أن العربي في الحرب كان يخفي اسمه ويكني حتى لا يعرف الأعداء اسمه لأنهم إذا عرفوه عرفوا أقداره وإذا عرفوا أقداره تمكنوا منه، واخوان الصفا حين قرروا الكتابة كان قرار دخول الحرب لذا اختاروا اسمهم المستعار من كتاب كليلة ودمنة الذي تأثروا بها جداً

-الموقف الخاطئ من الخطأ

وبهذا تكون المعرفة دائما مختبئة إما خلف لغة معقدة أو داخل جماعات سرية أو من وراء اسم مستعار وهذه هي الحواجز التي منعت المعرفة من أن تلتقي وتتلاقح فتنتج معرفة جديدة وهي أيضاً سبب لعزلة المثقف عن الجمهور ، البرج العاجي لم يكن خيار بل ضرورة

فبسبب الموقف الخاطئ من الخطأ تم شيطنة المعرفة لأنها قائمة على المحاولة و الخطأ، “لولا الخطأ ما عرف الصواب” كلمة يقولونها ولكنهم لا يفهمونها أو لا يطبقونها.

3 آراء حول “أساليب العرب في إخفاء المعرفة

  1. الله مقال كالعادة مثري وجميل وممتع ..
    بدايةً حين يُذكر المأمون ومناظراته لا يخطر في بالي إلا حادثة أحمد بن حنبل وماحدث في العصر العباسي في عهد المأمون قم المعتصم ثم المتوكل .. ومن هنا نقول أن العرب لم تستطيع أبدًا الخروج من تطرفاته حتى عندما إتخذت الآلية اليونانية وتبنتها وهي كما أسلفت المناظرات ..
    ثانيًا نتائج تلك المناظرات إما تمجيد وتخليد وإما تعزيز وتنكيل وذلك خاضع لكل حاكم وحاشيته و اعتقداته حتى حق الخطأ عند البعض تجريم .
    ثالثًا أحببت العنوان كثيرًا وذلك ذكرني بعدة قصص حول رجال البادية وكيف كانت العائلة الواحدة قديمًا تخفي. ماتريد قوله ومغزاه في الشعر وترمي مقاصدها فيه وأحيانًا تجعل بيوت الشعز ناقصة لا يكملها الا شاعر أخر يفهم المغزى وهكذا ..
    أخيرًا شكرًا لهذا الموضوع الممتع والجميل والفريد من نوعه

    إعجاب

  2. شكرا لك أستاذنا الغالي وشكرا للحظ والصدفة التي قادتني لمدونتك كما قادتتي لسنابكم
    تحياتي لك وبالتأكيد استمتعت بقراءة المقال
    وسأقوم بقراءاة جميع ما يبدع فكرك وشكرا

    Liked by 1 person

أضف تعليق